ان ضاقت النفس
كأن الشمس تسلط عمود حرها على دماغه لتذيبه ، وكأن الأرض تدحرجت من
على قمة جبل عليه حملها على كتفيه ليعيدها الى القمة
تعجب لما يمر به .!! أين اختفى الهواء .!! لما هو مقطوع الأنفاس .؟؟ ينظر الى
الأزهار بجانبه متسائلا أين ذهب جمالها .؟ ... الذي اعتاد ان يروض ضيق نفسه
بنفحاتها ويمتلئ بهجة برونق جمال ألوانها لماذا كل شيء يبدو مختلف .؟؟ قائلا
في نفسه مررت هنا مرات ومرات اصحب معي بؤسي لأبدده في سحر هذا المكان ،
لما أصبحت اشعر مع البؤس باليأس .؟ لماذا الكون ضيق الى هذا الحد .؟؟
نظر في يديه الى حطام العود ، لأنه اعتاد ان ينتشل عود يابس رقيق ليقطعه قطع
صغيرة وهو يتأمل طيب وجمال هذه الحديقة التي لم يكون للربيع على الأرض
أجمل منها .
رمى ما في يديه ووقف زاجرا منتفضا وهو يصرخ اختنقت ، اختنقت ... وإذا به
وجها لوجه مع السيد ضياء ، البستاني العجوز ، المسؤول عن كل الروعة في هذا
المكان ، هو الذي يختار أنواع الأشجار والإزهار ، والمكان والشكل الذي تزرع فيه
، منذ أكثر من عشرين عاما وهو في عمله هذا ، لا احد اعتاد الحضور الى هذا
الحديقة إلا وابهره السيد ضياء برقة ذوقه ، وعذوبة لفظه ، مصحوبة بنقاوة
الخلق ورجاحة العقل شاربه ولحيته بلونهما الابيض يضيفان لوجهه النوراني
وقارا ، لا تفارق شفتيه البسمة ان رأى احدا ، وان خلا لا يفارقها ذكر الرحمن ..
من اعتاد الحضور لهذا المكان سيكون صديقا للسيد ضياء دون ان يشعر بفارق
السن ومستحدثات الجيل ، هو القلب الحنون والعقل الناصح لكل من يتردد الى هذا
البستان
ابتسم السيد ضياء لرؤية مؤيد دون ان يخفي فزعه واستغرابه من صرخته
وانتفاضته .. كما ان مؤيد تسمر في مكانه خجلا من السيد ضياء ، حتى انه لم
يبتدأ بالتحية كما هو معتاد .. لكنه تذكر عليه ان يحيه ، سحب نفسا عميقا لتكون
التحية حارة ، سبقه السيد ضياء قائلا
-السلام عليكم ،، نهارك سعيد يا أمير الإزهار ، أراك في مزاج مختلف ، هل
أزعجتك إحدى أزهاري ، أم افتقدتني وانتفضت شوقا لجواري ، ابتسم مؤيد
مسرورا خجلا لكلام السيد ضياء حتى نسي حرارة الشمس والكرة الأرضية
التي يحملها على كتفيه ، فقال بابتسامته الخجلة
-عليكم السلام سيدي العزيز ، أي شي ينتمي اليك لا يكون مزعجا لأحد ، أبدا
، فقط اشعر باستياء .. يضع السيد ضياء يده على كتف مؤيد ويقول له
-اجلس يا بني . لا تجعل الغيظ يأكل حلمك لان الأمراء اذا عظم غيظهم قل في
الرعية حلمهم ، حينها يطغى شرهم كما يعظم ذنبهم ،، انظر لازهاري التي
نصبتك أمير عليها .!! كم هي حزينة لأنك لم تراعي رقتها وزجرت بوجهها ...
ابتسم مؤيد ابتسامة صادقة ، جلس وهو يقول
-لا اعلم الى أين كنت سأذهب لو لم أرك يا سيد ضياء .. يجلس السيد ضياء
ويجيب مؤيد
-لا باس عليك بني ،، قل لي ما الذي يسبب لك كل هذا الاستياء
-لا اعلم اشعر بالاحباط والفشل كأن المكان يضيق بي خرجت من البيت لأغير
من شعوري هذا ولكني أزدت استياء وحيرة
-هذا الهواء النقي ، و جمال الازهار ، وتغاريد الطيور تزيد من نشاط العقل
وحدة التفكير ،، هذا يعني انك تفكر في امر نتائجه لا ترضيك ،، يسكت السيد
ضياء منتظرا اجابة مؤيد ،، يصمت الاثنان وكأن الطيور علمت بأنهما بحاجة
الى المزيد من الحانها العذبة فزادت ،،، واذا عصفور صغير يحط بالقرب من الطاولة
التي يجلسون حولها يقفز هنا وهناك حتى يصل مابين اقدامهم وهما صامتان
صامدان خشية ان تخدش أي حركة منهما شعور السيد عصفور بالأمان
والحرية ،،، مازال يقفز ويقلب رأسه كأنه ينظر الى جهة اليمين بعينه اليسرى
والى جهة اليسار بعينه اليمنى الى ان التقط عود صغير جدا ، ثم حلق تاركا
براءته ابتسامة على شفتي كلا من السيد ضياء ومؤيد وهم يراقبونه حتى غاب
عن أنظارهم ، فعادت لتلتقي عينيهما من جديد ، اتسعت رقعة الابتسامة على
وجه كل منهما ولكنها سرعان ما اختفت من وجه مؤيد وقال
-حتى اني لم أصلي منذ البارحة ... رفع السيد ضياء حاجبيه مبديا تعجبه من
ما يسمع .. أكمل مؤيد قائلا ،، ولم اقرأ القرآن منذ أسبوع .. أجاب السيد ضياء
-هل انت في خصام مع الصلاة وقراءة القران ...؟؟ طأطئ مؤيد رأسه وهو
ساكت لا يجد ما يقوله .. أكمل السيد ضياء ،، هل يبدو لك الأمر مخجلا ،، قل
شيء.؟؟ سأراعي الأمر ان كنت في فترة حيض أو نفاس .!!
فزع مؤيد من قوله وكان مدفع دوى بالقرب منه .. أكمل السيد ضياء ،، دعك
من بياض شعري وحدثني كصديق ،، انه عرض مغري يا مؤيد قد لا تحصل
على صديق حولت تجارب الحياة شعره الأسود الى ابيض رفع مؤيد رأسه
حزين خجل قد أدرك ما يقصده السيد عماد وقال
-شكرا لعضتك سيدي ، فقط شعرت بالملل والإخفاق في أداء واجباتي
الحياتية ، المدرسية والاجتماعية ، أخذت أتكاسل عن فعل كل شيء ، اشعر
بالضياع لأنني ... يقاطعه السيد ضياء
-شعرت بالضياع فقررت ان تضع ذالك الشعور بالعمل لتكون من دون أي
قيمة تذكر ( إن حضرت لا تعد ، وان غبت لا تفتقد ) ،،، يا مؤيد الكل منا ينتابه
ما تشعر به من تقصير بحق ما نطمح اليه ،، ولكن يا بني الرغبة شعلة لا ينفذ
وقودها والغرائز التي تأججها لا يمكننا القضاء عليها ولكن يمكننا تهذيبها ،، و
لا يوجد من يهذب حياتنا خير من الامتثال لأمر الله وحكمه ،،،، فالصلاة في
وقتها تولد في داخلنا طابع احترام الوقت والالتزام بمواعيدنا وتعهداتنا مع
الاخرين و المواظبة على الدوام اليومي ان كان في المدرسة أو العمل ،، دون
ان نستشعر نحن بذلك ،، لأنها بمثابة برمجة للعقل ،،،، أما قراءة القران
تضيف للسان فصاحة وللعقل موارد الحكمة وآفاق المعرفة في كل أمور ديننا
ودنيانا ،، هذا في دار الدنيا ....
يصغي مؤيد الى ما يقوله السيد ضياء بكل جوارحه ... يكمل السيد ضياء هل
أثقلت عليك أم أكمل بقية حديثي .. يرد مؤيد بسرعة
-لا لا بالعكس انا مستمتع بما تقول .. يجيبه السيد ضياء
-بارك الله فيك ،، هناك شعوب لا دين لهم ولكن النبل والاحسان من اسما ما
يتصف به الانسان في معتقدهم ،، هذا يعني ان نزعة فعل الخير والعمل الصالح
مقرونة بفطرة ابن ادم ، ثم جاءت الشرائع السماوية مكملة مهذبة لهذه الفطرة
، فشاء الله ان يكون قبول أي عمل مقرون بقبول الصلاة لذا هي عمود الدين ان
قبلت قبل ما سواها ، وان ردت رد ما سواها ، .. انشرح صدر مؤيد وهو
يستمع لنصائح السيد ضياء شعر برغبة ان يكون بين يديه عود صغير ليقّطعه
قطع صغيرة ولكنه لا يجرؤ ان يُحوّل بصره من السيد ضياء الى الأرض كي
ينتشل عوده، اكتفى بابتسامة تدل على ما هو فيه كما استمر السيد ضياء
بحديثه قائلا
-ويقول الرسول (ص ) ( لا ينال شفاعتي من استخف بصلاته ) , وايضا في
قراءة القرآن الكريم ، ان القرآن يحضر لصاحبه ( قارئه ) يوم القيامة بأبهى
صوره شافعا له عند الله،، هذا في الدار الاخرة ..
باخر حرف يلفظه السيد ضياء يبتسم لمؤيد ابتسامة واسعة فيبادله هو
الاخر معبر عن المدى الذي رقت به مشاعره الى الحديث ثم قال
-أتعلم سيدي العزيز بان أبي كان قد اخبرني بكل ما تفضلت به لكن لا اعلم
اين غاب عني كل هذا ، وما انسانيه إلا الشيطان
-استعذ بالله من الشيطان يابني كي يخف عليك ما تشعر به من حمل وضيق
لأنه تأنيب للضمير اثر المعصية ، وما تشعر به الان قد لا ينتابك في وقت اخر
في حال اذا استمر عصيانك لله ، كما هو حال اخرين كثار ،، لان قلوبهم مات
بها الايمان ،،
ينتصب السيد ضياء واقفا ،، عليّ ان اسقي ازهاري وأزيل عنها الحشائش التي
تشاركها غذائها لتُضعِفها ،، كما يشارك الشيطان ازهار الايمان في قلوبنا
بقوتِها ليضعفها ، ولا يزيلها إلا ذكر الرحمن ... يقف مؤيد يمد يده لمصافحة
السيد ضياء وشكره على ما قدمه له من موعظة وارشاد
-شكرا لك سيد ضياء على صنيعك الجميل وما أوقع بي من خير اعاد صوابي
،، يضحك السيد ضياء مسرورا لقوله ، يقلب يده التي يصافح بها مؤيد
ليضع عليها الأخرى ، ليظم يده بكلتا يديه ، ليملئه بالمزيد من العطف والثقة وهو يقول
-قبل ان اذهب سأطلعك على أمر كان يفعله رسول الله ( ص ) كلما ضاق
صدره وتفاقمت الهموم ، حتى يحين وقت الصلاة ، ينادي ببلال الحبشي ،
يقول له ( أرحنا بها يا بلال ) أي بالصلاة ، فان ضاق صدرك وعسر امرك تذكر
قوله ( ص) وافعل فعله .................. لاتنسى ( آرح نفسك بالصلاة )
الى اللقاء ...... فينصرف